فصل: تفسير الآيات (57- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (57- 59):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ} بالقرآن ولذلك رجع الضمير إليها مذكراً في قوله أن {يفقهوه} {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي غير متفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لابد لهما من جزاء. ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية جمع كنان وهو الغطاء {أن يفقهوهُ وفي ءاذانهم وَقراً} ثقلاً عن استماع الحق وجمع بعد الإفراد حملاً على لفظ من ومعناه {وَإِن تَدْعُهُمْ} يا محمد {إِلَى الهدى} إلى الإيمان {فَلَنْ يَهْتَدُواْ} فلا يكون منهم اهتداء ألبتة {إِذَا} جزاء وجواب فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله مالي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم؟ فقيل {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً} {أَبَدًا} مدة التكليف كلها.
{وَرَبُّكَ الغفور} البليغ المغفرة {ذُو الرحمة} الموصوف بالرحمة {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} أي ومن رحمته ترك مؤاخذته أهل مكة عاجلاً مع فرط عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهم يوم بدر {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} منجى ولا ملجأ يقال: وآل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه {وَتِلْكَ} مبتدأ {القرى} صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر {أهلكناهم} أو {تلك القرى} نصب بإضمار (أهلكنا) على شريطة التفسير، والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم والمراد قوم نوح وعاد وثمود {لَمَّا ظَلَمُواْ} مثل ظلم أهل مكة {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته. وبفتح الميم وكسر اللام: حفص، وبفتحهما: أبو بكر أي لوقت هلاكهم أو لهلاكهم والموعد وقت أو مصدر.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}
{وَإِذْ} واذكر إذ {قَالَ موسى لفتاه} هو يوشع بن نون. وإنما قيل {فتاه} لأنه كان يخدمه ويتبعه ويأخذ منه العلم {لا أَبْرَحُ} لا أزال وقد حذف الخبر لدلالة الحال والكلام عليه، أما الأولى فلأنها كانت حال سفر وأما الثاني فلأن قوله: {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له فلابد أن يكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحر فارس والروم. وسمي خضراً لأنه أينما يصلي يخضر ما حوله {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أو أسير زماناً طويلاً قيل ثمانون سنة. رُوي أنه لما ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط سأل ربه: أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى فقال: وإني بأرضنا السلام: فعرفه نفسه فقال: يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا.

.تفسير الآيات (61- 66):

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} مجمع البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي نسي أحدهما وهو يوشع لأنه كان صاحب الزاد دليله {فإني نسيت الحوت} وهو كقولهم (نسوا زادهم) وإنما ينساه متعهد الزاد. قيل: كان الحوت سمكة مملوحة فنزلا ليلة على شاطئ عين الحياة ونام موسى. فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت ووقعت في الماء {فاتخذ سَبِيلَهُ في البحر} أي اتخذ طريقاً له من البر إلى البحر {سَرَباً} نصب على المصدر أي سرب فيه سرباً يعني دخل فيه واستر به {فَلَمَّا جَاوَزَا} مجمع البحرين ثم نزلا وقد سارا ما شاء الله {قَالَ} موسى {لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} تعبا ولم يتعب ولا جاع قبل ذلك {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} هي موضع الموعد {فَإِنّى نَسِيتُ الحوت} ثم اعتذر فقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ} وبضم الهاء: حفص {إِلاَّ الشيطان} بإلقاء الخواطر في القلب {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل من الهاء في {أنسانيه} أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان {واتخذ سَبِيلَهُ في البحر عَجَبًا} وهو أن أثره بقي إلى حيث سار {قَالَ ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ} نطلب. وبالياء: مكي، وافقه أبو عمرو وعلي ومدني في الوصل، وبغير ياء فيهما: غيرهما اتباعاً لخط المصحف و{ذلك} إشارة إلى اتخاذه سبيلاً أي ذلك الذي كنا نطلب لأن ذهاب الحوت كان علماً على لقاء الخضر عليه السلام {فارتدا على ءاثَارِهِمَا} فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه {قَصَصًا} يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً. قال الزجاج: القصص اتباع الأثر {فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} أي الخضر راقداً تحت ثوب أو جالساً في البحر {ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة أو العلم أو طول الحياة {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} يعني الإخبار بالغيوب. وقيل: العلم اللدني ما حصل للعبد بطريق الإلهام.
{قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً} أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني {رشَدا} أبو عمرو وهما لغتان كالبخل والبخل، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وأن كان قد بلغ نهايته وإن يتواضع لمن هو أعلم منه.

.تفسير الآيات (67- 71):

{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)}
{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ} وبفتح الياء: حفص، وكذا ما بعده في هذه السورة {صَبْراً} أي عن الإنكار والسؤال {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} تمييز، نفي استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يجزع إذا رأى ذلك فيكف إذا كان نبياً! {قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} من الصابرين عن الإنكار والإعراض {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً} في محل النصب عطف على {صابراً} أي ستجدني صابراً وغير عاص، أو هو عطف على {ستجدني} ولا محل له {قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى} بفتح اللام وتشديد النون: مدني وشامي، وبسكون اللام وتخفيف النون: غيرهما، والياء ثابتة فيهما إجماعاً {عَن شَئ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئاً وقد علمت أنه صحيح إلا أنه خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك أن لا تفاتحني بالسؤال ولا تراجعني فيه حتى أكون أنا الفاتح عليك، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع.
{فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السفينة خَرَقَهَا} فانطلقا على ساحل البحر يطلبان السفينة فلما ركباها قال أهلها: هما من اللصوص، وقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء فحملوهما بغير نول، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ثم {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} {ليَغرق} حمزة وعلي من غرق {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أتيت شيئاً عظيماً من أمر الأمر إذا عظم.

.تفسير الآيات (72- 74):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}
{قَالَ} أي الخضر {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فلما رأى موسى أن الخرق لا يدخله الماء ولم يفر من السفينة {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} بالذي نسيته أو بشيء نسيته أو بنسياني أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي، أو أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِى عُسْراً} رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني عسراً من أمري وهو اتباعه إياه أي ولا تعسر على متابعتك ويسرها عليَّ بالإغضاء وترك المناقشة {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} قيل: ضرب برأسه الحائط. وقيل: أضجعه ثم ذبحه بالسكين. وإنما قال: {فقتله} بالفاء وقال: {خرقها} بغير فاء، لأن {خرقها} جعل جزاء للشرط وجعل {قتله} من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا} وإنما خولف بينهما لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام {زَكِيَّةً} {زاكية} حجازي وأبو عمرو وهي الطاهرة من الذنوب، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت أو لأنها صغيرة لم يبلغ الحنث {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي لم تقتل نفساً فيقتص منها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نجدة الحروري كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه موسى فلك أن تقتل.
{لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} وبضم الكاف حيث كان: مدني وأبو بكر وهو المنكر. وقيل: النكر أقل من الإمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفنية، أو معناه جئت شيئاً أنكر من الأول لأن الخرق يمكن تداركه بالسد ولا يمكن تدارك القتل.

.تفسير الآيات (75- 77):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} زاد {لك} هنا لأن النكر فيه أكثر {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا} بعد هذه الكرة أو المسألة {فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً} أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق. و{لدني} بتخفيف النون: مدني وأبو بكر.
{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} هي أنطاكية أو الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء {استطعما أَهْلَهَا} استضافاً {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} ضيفه أنزله وجعله ضيفه قال عليه السلام: «كانوا أهل قرية لئاماً» وقيل: شر القرى التي تبخل بالقرى {فَوَجَدَا فِيهَا} في القرية {جِدَاراً} طوله مائة ذراع {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} يكاد يسقط استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة كما استعير الهم والعزم لذلك {فَأَقَامَهُ} بيده أو مسحه بيده فقام واستوى، أو نقضه وبناه كان الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسائلة فلم يجدا مواسياً، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رآى من الحرمان ومساس الحاجة أن {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لطلبت على عملك جعلا حتى تستدفع به الضرورة. {لتخذت} بتخفيف التاء وكسر الخاء وإدغام الذال: بصري، وبإظهارها: مكي، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإظهار الذال: حفص، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإدغام الذال في التاء: غيرهم. والتاء في (تخذ) أصل كما في (تبع)، و(اتخذ) افتعل منه كاتبع من تبع وليس من الأخذ في شيء.

.تفسير الآيات (78- 83):

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}
{قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل هذا فراق بيني وبينك، وقد قرئ به فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به {سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ في البحر} قيل: كانت لعشرة أخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعلمون في البحر {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أجعلها ذات عيب {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} أمامهم أو خلفهم وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره فأعلم الله به الخضر وهو جلندي {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها غصباً وإن كانت معيبة تركها، وهو مصدر أو مفعول له. فإن قلت: قوله: {فأردت أن أعيبها} مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب. قلت: المراد به التأخير وإنما قدم للعناية.
{وَأَمَّا الغلام} وكان اسمه الحسين {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً} فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شراً وبلاء، أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وهو من كلام الخضر. وإنما خشي الخضر منه ذلك لأنه تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وإن كان من قول الله تعالى، فمعنى {فخشينا} فعلمنا إن عاش أن يصير سبباً لكفر والديه {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} {يبَدِّلهما ربهما} مدني وأبو عمرو {خَيْراً مّنْهُ زكواة} طهارة ونقاء من الذنوب {وَأَقْرَبَ رُحْماً} رحمة وعطفا، و{زكاة} و{رحما} تمييز. روي أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً أو سبعين نبياً أو أبدلهما ابناً مؤمناً مثلهما شامي وهما لغتان {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين} أصرم وصريم {يَتِيمَيْنِ في المدينة} هي القرية المذكورة {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} أي لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. أو مال مدفون من ذهب وفضة أو صحف فيها علم والأول أظهر. وعن قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا، وحرمت الغنيمة عليها وأحلت لنا. {وَكَانَ أَبُوهُمَا} قيل: جدهما السابع {صالحا} ممن يصحبني. وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما. قال: فأبي وجدي خير منه {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي الحلم {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً} مفعول له أو مصدر منصوب ب {أراد ربك} لأنه في معنى رحمهما {مّن رَّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ} وما فعلت ما رأيت {عَنْ أَمْرِى} عن اجتهادي وإنما فعلته بأمر الله والهاء تعود إلى الكل أو إلى الجدار {ذلك} أي الأجوبة الثلاثة {تَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} حذف التاء تخفيفاً.
وقد زل أقدام أقوام من الضلال في تفضيل الولي على النبي وهو كفر جلي حيث قالوا: أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو وليّ. والجواب أن الخضر نبي وإن لم يكن كما زعم البعض، فهذا ابتلاء في حق موسى عليه السلام على أن أهل الكتاب يقولون: إن موسى هذا ليس موسى بن عمران إنما هو موسى بن مانان، ومن المحال أن يكون الوليّ وليًّا إلا بإيمانه بالنبي ثم يكون النبي دون الوليّ، ولا غضاضة في طلب موسى العلم لأن الزيادة في العلم مطلوبة. وإنما ذكر أولاً {فأردت} لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، وثالثاً {فأراد ربك} لأنه إنعام محض وغير مقدور البشر، وثانياً {فأردنا} لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل. وقال الزجاج: معنى فأردنا فأراد الله عز وجل ومثله في القرآن كثير.
{وَيَسْئَلُونَكَ} أي اليهود على جهة الإمتحان، أو أبو جهل وأشياعه {عَن ذِى القرنين} هو الإسكندر الذي ملك الدنيا. قيل: ملكها مؤمنان: ذو القرنين وسليمان، وكافران: نمرود وبختنصر وكان بعد نمرود. وقيل: كان عبداً صالحاً ملّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل: نبياً. وقيل: ملكاً من الملائكة. وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله، فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله أراد نفسه. قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى. وقال عليه السلام: «سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا» يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان أي ضفيرتان، أو انقرض في وقته قرنان من الناس، أو لأنه ملك الروم وفارس أو الترك والروم، أو كان لتاجه قرنان أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو كان كريم الطرفين أبا وأما وكان من الروم {قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ} من ذي القرنين {ذِكْراً}.